الطيران والثقافة- أجنحة تحلق نحو آفاق حضارية جديدة

المؤلف: منيف الحربي09.11.2025
الطيران والثقافة- أجنحة تحلق نحو آفاق حضارية جديدة

في عصرنا الحالي، نشهد ميلاد مفاهيم مبتكرة في عالم الطيران، حيث لم يعد الطيران مجرد وسيلة لنقل الركاب من مطار إلى آخر، بل أصبح تجربة شاملة تهدف إلى مرافقة المسافر في رحلة أعمق وأكثر إثراءً، رحلة تنتقل به من مجرد الفضول والاستطلاع إلى التساؤلات العميقة والدهشة التي لا تنتهي، ومن صعوده إلى الطائرة حاملاً بطاقة سفره إلى إطلاق العنان لمخيلته وتحليقه في عالم السحاب الخلاب.

لطالما كان الطيران، على امتداد عقود مديدة، يعتبر وسيلة نقل عصرية متطورة، بيد أنه في السنوات الأخيرة، خطا خطوات واسعة وتجاوز مجرد نقل الأفراد والبضائع، ليصبح وسيطاً فعالاً وحيوياً لنشر الثقافات المتنوعة، وتبادل الفنون الراقية، وتعزيز القيم الحضارية الجامعة التي تشترك فيها مختلف الشعوب، ولهذا فقد غمرتني سعادة غامرة عندما قرأت قبل يومين خبراً عن توقيع اتفاقية تعاون استراتيجي وثيق بين طيران الرياض ووزارة الثقافة، هذا التلاقي الفريد بين الأجنحة التي تحملنا في السماء والفكر الذي يضيء عقولنا، يبشر بالتحليق عالياً نحو آفاق جديدة رحبة من المعنى والإدراك.

إن فكرة التعاون الوثيق بين شركات الطيران والمؤسسات الثقافية ليست وليدة اللحظة، بل لها جذور عميقة في عالمنا، فعلى سبيل المثال، أطلقت الخطوط السعودية في العام الفائت مبادرة مبتكرة تحت عنوان «فنجال القهوة السعودية» وذلك بالتعاون المثمر مع وزارة الثقافة، وقبل ذلك بسنوات طوال، جسدت الخطوط السعودية هويتنا الوطنية السعودية الأصيلة بتفاصيل بارعة ومبدعة مثل تخصيص مصلى داخل الطائرة، وعرض دعاء السفر، وتقديم القهوة والتمر للضيوف، أما على الصعيد الخارجي، فنجد أن طيران الاتحاد قد ارتبط بعلاقة استراتيجية راسخة مع متحف اللوفر أبوظبي الشهير، كما أن لدى الخطوط اليابانية مبادرات عديدة ومتنوعة تهدف إلى الترويج للتقاليد اليابانية العريقة، بالإضافة إلى ذلك، تعاونت الخطوط الفنلندية مع متحف «آلتو» لتزيين طائراتها من الداخل برسومات فنية ساحرة مستوحاة من الفن الاسكندنافي الأخاذ، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا حصر لها، إلا أن أبرزها يتمثل في «مهرجان طيران الإمارات للآداب» الذي أقيمت نسخته السابعة عشرة في شهر فبراير الماضي، والذي تضمن مئات الفعاليات المدهشة، و36 جلسة حوارية شارك فيها 160 كاتباً مرموقاً، وحضرها الآلاف من عشاق الأدب والثقافة.

لقد أدركت شركات الطيران الكبرى الرائدة أن المنافسة الشديدة لم تعد تقتصر على توفير المقاعد المريحة والخدمات الترفيهية الفاخرة، وإنما أصبحت تشمل أيضاً تعزيز الشعور بالانتماء وخلق تجارب لا تُنسى تثير الدهشة والإعجاب، كما أن (الشراكات الثقافية) تعتبر جزءاً لا يتجزأ من صناعة الصورة الذهنية المميزة للناقل الجوي، وكذلك جزءاً من استراتيجية أعمق وأشمل تهدف إلى نقش الذاكرة البصرية والوجدانية العميقة داخل وجدان المسافر.

لم تعد الطائرات مجرد أجسام معدنية ضخمة تحلق في الأجواء الفسيحة، بل أصبحت قطعاً فنية من الوطن تحملُ معها عبق تاريخه العريق وعطره الفواح وموسيقاه الساحرة، لقد صار الطيران تعبيراً صادقاً عن شخصيات البلدان وصورتها الحضارية، ولم يعد ربط الطيران بالثقافة مجرد ترفيه أو دعاية، بل أصبح منهجاً راسخاً يسهم بفاعلية في تشكيل القوة الناعمة للدول.

في المملكة العربية السعودية، ومع تسارع وتيرة التحولات والتطورات، تبدو الفرصة سانحة ومواتية لتوسيع نطاق هذا التعاون المثمر واستثماره على أكمل وجه، فالمملكة بما تمثله من ثقل تاريخي وثقافي وحضاري عظيم، وبما تعيشه من نهضة شاملة في شتى المجالات، هي الأجدر بأن تكون نموذجاً عالمياً يحتذى به في هذا المسار، وأتمنى أن تكتمل الصورة جلية وواضحة لدى وزارة الثقافة والهيئة العامة للطيران المدني، فهناك الكثير من المكاسب الوطنية الجمة التي يمكن تحقيقها داخل هذا الإطار.

يمكن لكل مطار من مطاراتنا أن يكون محطة حضارية متكاملة، تنبض بالحياة والثقافة، ويمكن لكل رحلة جوية تقلع من الرياض أو جدة أو العلا أو نيوم أو البحر الأحمر أو أبها أن تكون بمثابة «سفير ثقافي متنقل» يرى العالم من خلاله هويتنا الراسخة المتجددة، وموروثنا الأصيل المتنوع، وإنسان هذه الأرض الطيبة الذي يطاول بطموحاته عنان السماء.

يجب أن يكون هناك تناغم وانسجام كاملان بين الجهات المسؤولة في قطاعات الطيران والثقافة والسياحة والرياضة والترفيه وغيرها من القطاعات الحيوية، لأن التجربة لا يمكن أن تكون فعّالة ومؤثرة ما لم يؤمن الجميع بأن الطيران ليس مجرد بنية تحتية أو تقنية متطورة فحسب، بل هو أيضاً بنية وجدانية عميقة، إنه أحد أكبر المسارح اليومية التي تمر عليها ملايين الأنفس.. فلماذا لا نضيء خشبته ونرتقي بتجربة المسافرين؟

فلنمنح الطيران لغته الجديدة بوصفه تجربة ثقافية حية نابضة بالحياة، ولنترك للمحركات أن تحكي قصصنا، وللسماء أن تكتب حكاياتنا، فهناك بين غيمتين وطن صغير يُحلِّق بثقافتنا عالياً.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة